تعرَّفوا على الله في الرخاء يعرفكم في الشدَّة
الخميس أبريل 29, 2010 2:26 am
عباد الله، إنكم تعيشون بنِعم الله في صحةٍ ونعمةٍ وأمن ورخاء، فاعرفوا نعمة الله عليكم بذلك واشكروه عليها؛ فإنه سبحانه هو الذي أسداها إليكم وهو الذي مَنَّ بها عليكم، وتعرّفوا الله - عزَّ وجل - في الرخاء يعرفكم في الشدة، تعرّفوا عليه بطاعته رغبةً في ثوابه وبالابتعاد عن معصيته خوفًا من عقابه .
إن رخاء العيش وطيب الحال من النِّعم التي تستوجب الشكر على عباد الله لله - عزَّ وجل - وتستلزم القيام بطاعة المنعم الجواد لِمَن كان له قلب، وإن الإنسان في حال الرخاء، في حال الصحة، في حال الأمن يستطيع أن يعمل ما لا يُمكنه القيام به في حال الشدة؛ لأنه معافًى في بدنه آمنٌ في بلده مترفٌ في جسده، ولكن هل هذه الأحوال تدوم ؟
إنه قد تعقبها شدة فيُصبح مريضًا بعد العافية وخائفًا بعد الأمن وجائعًا بعد الشِّبع وفي شظفٍ بعد الترف، فإذا كان العبد متعرّفًا على الله - عزَّ وجل - في حال الرخاء عرَفَه الله تعالى في حال الشدة فلطف به وأعانه على شدائده ويسَّر أموره لا سيما إذا جاءه الموت وكان في أضيق حال يكون عليها؛ فإن الله تعالى يلطف به في هذه الحال ويوفّقه للتوحيد والإخلاص حتى يموت على لا إله إلا الله «ومَن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة».
اللهم اجعلنا من هؤلاء، اللهم اجعلنا من هؤلاء، اللهم اجعلنا من هؤلاء بِمَنّك وكرمك يا أرحم الراحمين .
عباد الله، اذكروا قول الله عزَّ وجل: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2-3]، واذكروا قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4]، واذكروا قول الله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنفال: 29] .
أيها الإخوة الكرام، تعرّفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدّة واذكروا ما ضربه النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لأمّته مثلاً على ذلك فيما قصّه علينا وهو أصدق مَن نطق من بني آدم، قصَّ علينا نبأ (ثلاثة مِمَّن كانوا قبلنا انطلقوا فآواهم المبيت إلى غار فدخلوا في ذلك الغار فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدَّت الغارَ عليهم ولم يتمكّنوا من إزاحتها فقال بعضهم لبعض: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم؛ يعني: أن تتوسّلوا إلى الله بِما صنعتم من صالح الأعمال، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً؛ أي: لا أعطي أحدًا من اللبن قبلهما، أهلاً ولا مالاً؛ يعني: لا قرابةً ولا مماليك، قال: فنأى بي طلب الشجر يومًا فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبتُ لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أُغبق قبلهما أحدًا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى طلع الفجر والصبيةُ يتضاغون عند قدمي حتى استيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنّا ما نحن فيه» توسّل هذا الرجل بالبِّر التامّ لوالديه حتى إنه لم يقدّم عليهما أحدًا من أهل ولا مال فانفرجت الصخرة قليلاً .
وقال الثاني: اللهم إنه كانت لي بنت عم وكنت أحبّها كأشد ما يحب الرجال النساء فاردتها على نفسها فامتنعت منّي حتى ألَمَّت بها سنة من السنين - يعني: احتاجت - فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخُلّي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قعدت بين رجليها قالت: اتَّقِ اللهِ ولا تفضّ الخاتم إلا بحقه، فقمت وانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنّا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة إلا إنهم لا يستطيعون الخروج، وهذا توسّل إلى الله تعالى بكمال العّفة .
أما الثالث فقال: اللهم إني استأجرت أُجراء وأعطيتهم أجرهم إلا رجلاً واحدًا ترك أجره وذهب فثمَّرت له أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أدِّ إليَّ أجري ؟ فقلت: كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق فهو لك من أجرك؛ أي: بدَلَه، فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله واستاقه ولم يترك منه شيئًا، اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنّا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون.
أيها الإخوة، تأمّلوا هذه القصة التي قصّها علينا نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - أصدق الناطقين من البشر وإنَّما قصّها علينا لنتَّخذَ منها عبرة .
فالأول من هؤلاء ضرب مثلاً عظيمًا في البِرِّ بوالديه، بقي طوال الليل والإناء على يده لم تطب نفسه أن يشرب منه ولا أن يسقي أولاده وأهله وماله ولا أن يُنغّص على والديه نومهما حتى طلع الفجر .
وأما الثاني فضرب مثلاً بالغًا في العفّة الكاملة؛ حيث تمكَّن من حصول مراده من هذه المرأة التي هي أحب الناس إليه ولكن لَمّا ذكّرته بالله - عزَّ وجل - تركها وهي أحب الناس إليه ولم يأخذ شيئًا مِمَّا أعطاها .
وأما الثالث فضرب مثلاً في غاية الأمانة والنصح؛ حيث نَمَّى للأجير أجره فبلغ ما بلغ وسلّمه إلى صاحبه ولم يأخذ على عمله شيئًا، فماذا كان من الله الجواد الكريم لقاء هذه الأعمال الصالحة ؟
كان الجزاء من الله - عزَّ وجل - التي تعرّفوا بها لله في حال الرخاء أن الله عرفهم في حال الشدة فأنقذهم من الهلاك وهذه سُنة الله في خلقه إلى يوم القيامة، مَن تعرّف ربه حال الرخاء عرفه في حال الشدة كما أوصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: «تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»
الراوي: عبد الله بن عباس المحدث: عبد الحق الإشبيلي - المصدر: الأحكام الشرعية الكبرى - الصفحة أو الرقم: 3/333خلاصة حكم المحدث: صحيح.
أيها الإخوة، إن الشدائد أنواع منوّعة وإن أعظم شدة يقع فيها الإنسان ما يكون من شِدة الموت عند فِراق المألوف واستقبال المخوف، عند فراق الأهل والأصحاب، عند الإقبال على سكن التراب، فإذا كان العبد مِمَّن تعرّف إلى الله في حال صحته وحياته عرَفَه الله تعالى في حال شدّته عند وفاته فهوَّن الأمر عليه وأحسن له الخاتمة وانتقل من الدنيا على أحسن حال .
أما إذا كان مُعرضًا عن الله لَمْ يزده الرخاء إلا بطرًا وبُعدًا عن الله وانغماسًا في التّرف الذي به التلف؛ فإن الله يكله إلى نفسه ويتخلّى عنه حال الشدائد فتُحيط به سيئاته ويموت على أسوإ حال وأخبث مآل .
اللهم أعِذْنا من هذا يا رب العالمين، اللهم أعِذْنا من هذا يا رب العالمين، اللهم أعِذْنا من هذا يا رب العالمين، اللهم اجعلنا مِمَّن أقبل إليك مِمَّن تعرّف إليك في الرخاء فعرفته في الشدة يا رب العالمين .
أيها الإخوة، اسمعوا قول الله عزَّ وجل: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ*اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الزمر: 61-63] .
اللهم اجعلنا من أوليائك المتَّقين وحزبك المفلحين يا رب العالمين .
الخطبة الثانية:
فلقد سمعتم ما جاء في العفّة الكاملة من تفريج الكربات وزوال المكروهات وإن مِمّا يُعين على العفة: أن يتّقي الإنسان ربه في السِّر والعلانية وأن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» فنفى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - الإيمان عمَّن كان يزني حين زِناه؛ وذلك لأنه لو كان عنده إيمان صادقٌ لرَاقب الله - عزَّ وجل - عن هذه الفاحشة ولكن لِضِعْفِ إيمانه ونقص إيمانه تجرّأ عليها وعدلَ عن الصراط المستقيم عمّا وعدَ الله به من الزكاء والفلاح، قال الله عزَّ وجل: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾ [النور: 30] .
ومن أسباب ذلك، من أسباب العفّة الكاملة: أن يبتعد الإنسان عن مشاهدة النساء في الأسواق، في التلفزيون، في الدشوش؛ فإن ذلك من أسباب الزنا وتعلّق القلب بغير الله عزَّ وجل، والإنسان إذا تعلّق بغير الله انصرف عن الله بقدر ما تعلّق فيه بغير الله عزَّ وجل .
ومن أسباب ذلك: أن يحرص الإنسان على أهله إذا خرجوا إلى الأسواق بألا تخرج المرأة متبرّجة ولا متطيّبة ولا لابسة أحسنَ الثياب ولا متغنِّجة بل تخرج متحجِّبة تمام الحجاب، وأن يُبيّن لأهله ألا يغترّوا بمثل ما انخدع به بعض الناس من التوسع في اللباس وعدم المبالاة به .
إنَّني وغيري من أهل الوعظ والإرشاد نُحذّر عن هذا دائمًا ولكن - مع الأسف الشديد - أن من الناس مَن يسمع ولا يسمع، أن من الناس كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، أن من الناس مَن لا يستجيبون لأمر الله ورسوله، أن مِن الناس مَن لا يهتمّون بأداء الأمانة، أن مِن الناس مَن يُضيعون أهليهم من بنين وبنات وأزواج وأخوات ولكنهم حريصون غاية الحرص على أموالهم؛ تجد الرجل مُنهمكًا فيما يُصلح ماله ويدفع عنه الخسارة، أما أهله وبنوه وبناته فإنه لا يهتم بهم، وواللهِ إنه لَيَندم أشدَّ الندم حين يسائله رب العالمين يوم القيامة: أين أنت من قولي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ ؟ [التحريم: 6]، أتَظنّون أن هذا الأمر مِن الله سيذهب هباءً ؟ أتَظنون أنكم لا تسألون عنه يوم القيامة ؟ واللهِ لتُسألن عن هذا، أفَلا يذكر أولئك قول الله عزَّ وجل: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: 6]، وقد قال خاتم الرسل؛ خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم: «الرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته» .
إنكم واللهِ مسؤولون عن أهليكم، إنكم مسؤولون عنهم، إنكم مسؤولون عنهم فأعدّوا لهذا السؤال جوابًا، وإن جوابكم لن يكون صوابًا حتى تمتثلوا أمر الله في رعاية ومراعاة أهليكم من بنين وبنات وزوجات وأخوات وغيرهن .
اتَّقوا الله عباد الله، اتَّقوا الله عباد الله، اتَّقوا الله عباد الله، لا يغرنّكم صنيع أعدائكم الذين يريدون أن تتحرّر المرأة من عبودية الله - عزَّ وجل - إلى عبودية الشيطان والشهوات، واللهِ لن يتحرّر أحد من عبادة من جهة إلا عبدَ شيئًا آخر من جهة أخرى، وما أحسن ما قال ابن القيم - رحمه الله - في قصيدته النونيّة العظيمة، قال:
هربوا من الرّقِّ الذي خُلقوا له
وبُلوا برِقّ النفسِ والشيطانِ
الرّقُّ الذي خُلقنا له هو: عبادة الله، هؤلاء هربوا من عبادة الله، خالفوا أمر الله، عصوا أمر الله ولكنهم بُلوا بعبادة النفس - هوى النفس الباطل المنحرف - وعبادة الشيطان؛ فإن الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر .
عباد الله، إن الله - عزَّ وجل - لم ينزل كتابه على رسوله ولم يتكلم رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة من أجل أن نَمُرّ على هذا الكتاب العظيم وهذه السُّنة المطهرة وكأنها قصص وأمثال؛ إنها واللهِ مواعظ .
فاتَّقوا الله عباد الله، اتّقوا الله قبل أن تندموا فلا ينفع الندم، كُفّوا أهليكم عن الفحشاء ووسائل الفحشاء؛ فإن ذلك أزكى لكم وأطهر .
اللهم هيئ لشعبنا أمر رشد، اللهم هيئ لشعبنا أمرَ رشد رجاله ونساءه، شبابه وشيوخه، ذكوره وإناثه؛ إنك على كل شيء قدير .
خطبة للشيخ العلامة محمد صالح العثيمين رحمه الله.
إن رخاء العيش وطيب الحال من النِّعم التي تستوجب الشكر على عباد الله لله - عزَّ وجل - وتستلزم القيام بطاعة المنعم الجواد لِمَن كان له قلب، وإن الإنسان في حال الرخاء، في حال الصحة، في حال الأمن يستطيع أن يعمل ما لا يُمكنه القيام به في حال الشدة؛ لأنه معافًى في بدنه آمنٌ في بلده مترفٌ في جسده، ولكن هل هذه الأحوال تدوم ؟
إنه قد تعقبها شدة فيُصبح مريضًا بعد العافية وخائفًا بعد الأمن وجائعًا بعد الشِّبع وفي شظفٍ بعد الترف، فإذا كان العبد متعرّفًا على الله - عزَّ وجل - في حال الرخاء عرَفَه الله تعالى في حال الشدة فلطف به وأعانه على شدائده ويسَّر أموره لا سيما إذا جاءه الموت وكان في أضيق حال يكون عليها؛ فإن الله تعالى يلطف به في هذه الحال ويوفّقه للتوحيد والإخلاص حتى يموت على لا إله إلا الله «ومَن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة».
اللهم اجعلنا من هؤلاء، اللهم اجعلنا من هؤلاء، اللهم اجعلنا من هؤلاء بِمَنّك وكرمك يا أرحم الراحمين .
عباد الله، اذكروا قول الله عزَّ وجل: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2-3]، واذكروا قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4]، واذكروا قول الله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنفال: 29] .
أيها الإخوة الكرام، تعرّفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدّة واذكروا ما ضربه النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لأمّته مثلاً على ذلك فيما قصّه علينا وهو أصدق مَن نطق من بني آدم، قصَّ علينا نبأ (ثلاثة مِمَّن كانوا قبلنا انطلقوا فآواهم المبيت إلى غار فدخلوا في ذلك الغار فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدَّت الغارَ عليهم ولم يتمكّنوا من إزاحتها فقال بعضهم لبعض: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم؛ يعني: أن تتوسّلوا إلى الله بِما صنعتم من صالح الأعمال، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً؛ أي: لا أعطي أحدًا من اللبن قبلهما، أهلاً ولا مالاً؛ يعني: لا قرابةً ولا مماليك، قال: فنأى بي طلب الشجر يومًا فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبتُ لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أُغبق قبلهما أحدًا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى طلع الفجر والصبيةُ يتضاغون عند قدمي حتى استيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنّا ما نحن فيه» توسّل هذا الرجل بالبِّر التامّ لوالديه حتى إنه لم يقدّم عليهما أحدًا من أهل ولا مال فانفرجت الصخرة قليلاً .
وقال الثاني: اللهم إنه كانت لي بنت عم وكنت أحبّها كأشد ما يحب الرجال النساء فاردتها على نفسها فامتنعت منّي حتى ألَمَّت بها سنة من السنين - يعني: احتاجت - فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخُلّي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قعدت بين رجليها قالت: اتَّقِ اللهِ ولا تفضّ الخاتم إلا بحقه، فقمت وانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنّا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة إلا إنهم لا يستطيعون الخروج، وهذا توسّل إلى الله تعالى بكمال العّفة .
أما الثالث فقال: اللهم إني استأجرت أُجراء وأعطيتهم أجرهم إلا رجلاً واحدًا ترك أجره وذهب فثمَّرت له أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أدِّ إليَّ أجري ؟ فقلت: كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق فهو لك من أجرك؛ أي: بدَلَه، فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله واستاقه ولم يترك منه شيئًا، اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنّا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون.
أيها الإخوة، تأمّلوا هذه القصة التي قصّها علينا نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - أصدق الناطقين من البشر وإنَّما قصّها علينا لنتَّخذَ منها عبرة .
فالأول من هؤلاء ضرب مثلاً عظيمًا في البِرِّ بوالديه، بقي طوال الليل والإناء على يده لم تطب نفسه أن يشرب منه ولا أن يسقي أولاده وأهله وماله ولا أن يُنغّص على والديه نومهما حتى طلع الفجر .
وأما الثاني فضرب مثلاً بالغًا في العفّة الكاملة؛ حيث تمكَّن من حصول مراده من هذه المرأة التي هي أحب الناس إليه ولكن لَمّا ذكّرته بالله - عزَّ وجل - تركها وهي أحب الناس إليه ولم يأخذ شيئًا مِمَّا أعطاها .
وأما الثالث فضرب مثلاً في غاية الأمانة والنصح؛ حيث نَمَّى للأجير أجره فبلغ ما بلغ وسلّمه إلى صاحبه ولم يأخذ على عمله شيئًا، فماذا كان من الله الجواد الكريم لقاء هذه الأعمال الصالحة ؟
كان الجزاء من الله - عزَّ وجل - التي تعرّفوا بها لله في حال الرخاء أن الله عرفهم في حال الشدة فأنقذهم من الهلاك وهذه سُنة الله في خلقه إلى يوم القيامة، مَن تعرّف ربه حال الرخاء عرفه في حال الشدة كما أوصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: «تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»
الراوي: عبد الله بن عباس المحدث: عبد الحق الإشبيلي - المصدر: الأحكام الشرعية الكبرى - الصفحة أو الرقم: 3/333خلاصة حكم المحدث: صحيح.
أيها الإخوة، إن الشدائد أنواع منوّعة وإن أعظم شدة يقع فيها الإنسان ما يكون من شِدة الموت عند فِراق المألوف واستقبال المخوف، عند فراق الأهل والأصحاب، عند الإقبال على سكن التراب، فإذا كان العبد مِمَّن تعرّف إلى الله في حال صحته وحياته عرَفَه الله تعالى في حال شدّته عند وفاته فهوَّن الأمر عليه وأحسن له الخاتمة وانتقل من الدنيا على أحسن حال .
أما إذا كان مُعرضًا عن الله لَمْ يزده الرخاء إلا بطرًا وبُعدًا عن الله وانغماسًا في التّرف الذي به التلف؛ فإن الله يكله إلى نفسه ويتخلّى عنه حال الشدائد فتُحيط به سيئاته ويموت على أسوإ حال وأخبث مآل .
اللهم أعِذْنا من هذا يا رب العالمين، اللهم أعِذْنا من هذا يا رب العالمين، اللهم أعِذْنا من هذا يا رب العالمين، اللهم اجعلنا مِمَّن أقبل إليك مِمَّن تعرّف إليك في الرخاء فعرفته في الشدة يا رب العالمين .
أيها الإخوة، اسمعوا قول الله عزَّ وجل: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ*اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الزمر: 61-63] .
اللهم اجعلنا من أوليائك المتَّقين وحزبك المفلحين يا رب العالمين .
الخطبة الثانية:
فلقد سمعتم ما جاء في العفّة الكاملة من تفريج الكربات وزوال المكروهات وإن مِمّا يُعين على العفة: أن يتّقي الإنسان ربه في السِّر والعلانية وأن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» فنفى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - الإيمان عمَّن كان يزني حين زِناه؛ وذلك لأنه لو كان عنده إيمان صادقٌ لرَاقب الله - عزَّ وجل - عن هذه الفاحشة ولكن لِضِعْفِ إيمانه ونقص إيمانه تجرّأ عليها وعدلَ عن الصراط المستقيم عمّا وعدَ الله به من الزكاء والفلاح، قال الله عزَّ وجل: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾ [النور: 30] .
ومن أسباب ذلك، من أسباب العفّة الكاملة: أن يبتعد الإنسان عن مشاهدة النساء في الأسواق، في التلفزيون، في الدشوش؛ فإن ذلك من أسباب الزنا وتعلّق القلب بغير الله عزَّ وجل، والإنسان إذا تعلّق بغير الله انصرف عن الله بقدر ما تعلّق فيه بغير الله عزَّ وجل .
ومن أسباب ذلك: أن يحرص الإنسان على أهله إذا خرجوا إلى الأسواق بألا تخرج المرأة متبرّجة ولا متطيّبة ولا لابسة أحسنَ الثياب ولا متغنِّجة بل تخرج متحجِّبة تمام الحجاب، وأن يُبيّن لأهله ألا يغترّوا بمثل ما انخدع به بعض الناس من التوسع في اللباس وعدم المبالاة به .
إنَّني وغيري من أهل الوعظ والإرشاد نُحذّر عن هذا دائمًا ولكن - مع الأسف الشديد - أن من الناس مَن يسمع ولا يسمع، أن من الناس كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، أن من الناس مَن لا يستجيبون لأمر الله ورسوله، أن مِن الناس مَن لا يهتمّون بأداء الأمانة، أن مِن الناس مَن يُضيعون أهليهم من بنين وبنات وأزواج وأخوات ولكنهم حريصون غاية الحرص على أموالهم؛ تجد الرجل مُنهمكًا فيما يُصلح ماله ويدفع عنه الخسارة، أما أهله وبنوه وبناته فإنه لا يهتم بهم، وواللهِ إنه لَيَندم أشدَّ الندم حين يسائله رب العالمين يوم القيامة: أين أنت من قولي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ ؟ [التحريم: 6]، أتَظنّون أن هذا الأمر مِن الله سيذهب هباءً ؟ أتَظنون أنكم لا تسألون عنه يوم القيامة ؟ واللهِ لتُسألن عن هذا، أفَلا يذكر أولئك قول الله عزَّ وجل: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: 6]، وقد قال خاتم الرسل؛ خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم: «الرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته» .
إنكم واللهِ مسؤولون عن أهليكم، إنكم مسؤولون عنهم، إنكم مسؤولون عنهم فأعدّوا لهذا السؤال جوابًا، وإن جوابكم لن يكون صوابًا حتى تمتثلوا أمر الله في رعاية ومراعاة أهليكم من بنين وبنات وزوجات وأخوات وغيرهن .
اتَّقوا الله عباد الله، اتَّقوا الله عباد الله، اتَّقوا الله عباد الله، لا يغرنّكم صنيع أعدائكم الذين يريدون أن تتحرّر المرأة من عبودية الله - عزَّ وجل - إلى عبودية الشيطان والشهوات، واللهِ لن يتحرّر أحد من عبادة من جهة إلا عبدَ شيئًا آخر من جهة أخرى، وما أحسن ما قال ابن القيم - رحمه الله - في قصيدته النونيّة العظيمة، قال:
هربوا من الرّقِّ الذي خُلقوا له
وبُلوا برِقّ النفسِ والشيطانِ
الرّقُّ الذي خُلقنا له هو: عبادة الله، هؤلاء هربوا من عبادة الله، خالفوا أمر الله، عصوا أمر الله ولكنهم بُلوا بعبادة النفس - هوى النفس الباطل المنحرف - وعبادة الشيطان؛ فإن الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر .
عباد الله، إن الله - عزَّ وجل - لم ينزل كتابه على رسوله ولم يتكلم رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة من أجل أن نَمُرّ على هذا الكتاب العظيم وهذه السُّنة المطهرة وكأنها قصص وأمثال؛ إنها واللهِ مواعظ .
فاتَّقوا الله عباد الله، اتّقوا الله قبل أن تندموا فلا ينفع الندم، كُفّوا أهليكم عن الفحشاء ووسائل الفحشاء؛ فإن ذلك أزكى لكم وأطهر .
اللهم هيئ لشعبنا أمر رشد، اللهم هيئ لشعبنا أمرَ رشد رجاله ونساءه، شبابه وشيوخه، ذكوره وإناثه؛ إنك على كل شيء قدير .
خطبة للشيخ العلامة محمد صالح العثيمين رحمه الله.
- الصقرالمقنعالصقرالمقنع
- عدد المشاركات : 7031
العمر : 39
أوسمة التميز :
تاريخ التسجيل : 14/12/2008
رد: تعرَّفوا على الله في الرخاء يعرفكم في الشدَّة
السبت مايو 01, 2010 11:58 pm
جزاك الله خيرا
علي تقديم القصة
التي فيها العبر الكثيرة
نسال الله الهدى والتقى والعفاف والغنى اللهم آمين
علي تقديم القصة
التي فيها العبر الكثيرة
نسال الله الهدى والتقى والعفاف والغنى اللهم آمين
- حديث تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها
- سبحان الله .. بالصور النحل يكتب اسم الله على برواز العسل
- ما درا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم (صلى الله عليه وسلم) وبين رؤساء قريش
- قف وفكر!!!! هل تحب أن ترى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في الحلم ؟؟؟؟؟
- شرح حديث: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن))
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى