حَدِيثُ شُعَب الْإِيمَان. عبدالرزاق البدر
الأحد أبريل 07, 2019 5:33 pm
حَدِيثُ شُعَب الْإِيمَان
الحمدُ لله رب العالمين ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلَّى اللهُ وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . اللهم ارزقنا الفقه في الدين ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علمًا ، اللهم آت نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها . أما بعد:
فقد جاء في الصحيحين -صحيحي البخاري ومسلم- عن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً ؛ فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ))، وهذه وقفة نتذاكر فيها شيئًا من مضامين هذا الحديث العظيم ؛ في بيان الإيمان وكثرة شُعبه وتنوع خصاله والتفاضل بينها ، وأن شعب الإيمان ليست على رتبة واحدة بل بينها تفاضل عظيم ، وهذا بلا ريب يتطلب من المسلم أن يكون على عنايةٍ بالإيمان وشُعبه وخصاله العظيمة ليزداد بذلك إيمانا .
والإيمان هو أجلُّ المطالب وأعظم المقاصد ؛ به سعادة العبد في الدارين ، وبه رفعة درجاته عند رب العالمين، وفوزه بجنات النعيم ، وفيه نجاة العبد من النار وسخط الجبار سبحانه وتعالى ، وبه طمأنينة العبد وهناءة عيشه في هذه الحياة الدنيا نعيمًا معجلًا له في الدنيا قبل نعيم الآخرة ، كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}[الانفطار:13] أي في دورهم الثلاثة ، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97] .
وثمار الإيمان وآثاره المباركة على عبد الله المؤمن في دنياه وأخراه لا حد لها ولا عد ؛ ولهذا ينبغي على العبد الناصح لنفسه أن تعظُم عنايته بإيمانه محافظةً عليه ورعايةً له وعنايةً بتقويته وتجديده ، لأن الإيمان يأتي عليه من الصوارف والصواد ما يسبِّب ضعفه ووهاءه ، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((إِنَّ الإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ الْخَلِقُ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجَدِّدَ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ)) ؛ هذا مطلب ينبغي أن يُعنى به المسلم ألا وهو: تجديد الإيمان ، وبذل الأسباب في تقويته ، وكثرة دعاء الله سبحانه وتعالى أن يثبته على الإيمان وأن يزيد إيمانه وأن يجدد الإيمان في قلبه ، وأن يعيذه من الزيغ والانحراف عن سبيل الإيمان .
وهذا الحديث «حديث الشعب» حديث أبي هريرة الذي هو موطن حديثنا هذا الصباح حديث عظيم في باب تقوية الإيمان وتجديد الإيمان ، بل هو يُعد من أجمع الأحاديث في تعريف الإيمان وبيانه وبيان مضامينه العظيمة ، وأن الإيمان ليس شيئا يقوم في القلب فقط ، بل الإيمان في القلب واللسان والجوارح ؛ فكما أن القلب يؤمن فاللسان كذلك والجوارح كذلك تصدِّق إيمان القلب .
قال عليه الصلاة والسلام : ((الإيمان بضع وسبعون شعبة)) هذا فيه أن أعمال الإيمان وخصاله كثيرة ليست قليلة؛ «بضع وسبعون شعبة» ، قد يكون العدد مرادًا ، وقد يكون العدد ليس مرادًا وإنما المراد التكثير على عادة العرب ، خاصة في السبعين والسبعمائة وما تضعَّف منه عند إرادة التكثير . الحاصل أن الإيمان له شعب كثيرة ، وهذه الشعب مبيَّنة في كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه . وهذه الشعب لها أعلى ولها أدنى؛ ((أعلاها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) ، فإذًا هي شعبٌ ليست متساوية في الفضل والمكانة والدرجة ، بل لها أعلى ولها أدنى ، وبين هذا الأعلى الذي هو قول لا إله إلا الله والأدنى الذي هو إماطة الأذى عن الطريق شعبٌ كثيرة ؛ منها ما هو أقرب إلى الأعلى ، ومنها ما هو اقرب إلى الأدنى . وهذه الشعب منها ما يتعلق بالقلب ، ومنها ما يتعلق باللسان ، ومنها ما يتعلق بالجوارح ؛ فأفاد هذا أن على المؤمن أن يُعنى بإيمانه من حيث تقوية القلب ، ومن حيث العناية باللسان ، ومن حيث إقامة الجوارح على طاعة الله سبحانه وتعالى .
قال: ((أعلاها قول لا إله إلا الله)) وهذا فيه فضل هذه الكلمة وأنها أعلى الإيمان وأرفع شعبه . وهذه الكلمة هي أساس الدين الذي عليه يُبنى ومداره الذي عليه يقوم ، فإن دين الله سبحانه وتعالى لا يقوم إلا على هذه الكلمة ، فإن هذه الكلمة شأنها في الدين كالأساس في البنيان والأصول في الأشجار ، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[إبراهيم:24-25] ، فهذا مثل للإيمان وأن له أصلًا ثابتًا عليه قيامه ، مثله مثل الأصول للأشجار ، فكما أن الأشجار لا تقوم إلا على أصول ثابتة فالإيمان كذلك لا يقوم إلا على أصل ثابت وأساس راسخ في قلب العبد ، مدار ذلك على هذه الكلمة «لا إله إلا الله» ، ولهذا قال ((أعلاها قول لا إله إلا الله)) فهذه أرفع شعب الإيمان لأنها هي الأساس الذي يقوم عليه دين الله سبحانه وتعالى . وعليه فإن كل عمل يقوم به المرء ليس قائمًا على هذه الكلمة ليس متأسِّسًا على هذه الكلمة فإنه ليس بنافع ، فإن الأعمال إنما تكون نافعة للعامل إذا كانت قائمة على هذا الأصل المتين والأساس العظيم الذي عليه قيام دين الله سبحانه وتعالى .
وقوله صلى الله عليه وسلم ((أعلاها قول لا إله إلا الله)) ليس المراد بالقول هنا مجرد نطق اللسان بهذه الكلمة ، فإن القول إذا أطلق يراد به قول القلب واللسان معًا ، مثل قوله تعالى :{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ}[البقرة:136] ، ((قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ)) ونحو ذلك ، القول إذا أطلق يراد به قول القلب واللسان معًا ، وأما إذا قُيد فهو بحسب ما قُيِّد به ؛ {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}[الفتح:11] هنا قُيد، {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ}[المجادلة:8] قُيد ، لكن إذا أطلق فإنه يتناول قول القلب واللسان معًا .
وعليه فإن قوله ((أعلاها قول لا إله إلا الله)) أي: قولها بالقلب عقيدةً وباللسان نطقًا وتلفظا ؛ قولها بالقلب عقيدة: بأن يكون نطق المرء بها بلسانه مبنيًا على اعتقادٍ في قلبه ، لكن إن قالها بلسانه أو حرَّك بها لسانه ولا ينطوي قلبه على اعتقاد ما تضمنته لا يكونه هذا القول نافعًا له ، لأن القول المطلوب هو قول القلب واللسان ، فتضمن قوله ((أعلاها قول لا إله إلا الله)) العقيدة واستقامة القلب بالاعتقاد الصحيح على التوحيد والإخلاص لله سبحانه وتعالى ، واستقامة اللسان على ذلك . وهذان العضوان في العبد هما أخطر أعضائه ؛ القلب واللسان ، فإذا وُفق العبد بأن استقام قلبه واستقام لسانه فإن بدنه كله سيستقيم تبعًا لهما ، فالمرء بقلبه ولسانه ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في شأن القلب : ((أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)) ، وقال في شأن اللسان: ((إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا ؛ فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ -الأعضاء كلها باللسان- فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا)) ؛ إذا اعوج اللسان اعوج البدن ، وإذا استقام اللسان استقام البدن . وهذا أيضا يوضح لنا هذا الأساس العظيم وأن العبد إذا استقام عليه استقامت له جوارحه وسلِمت له طريقه بإذن الله سبحانه وتعالى .
و«لا إله إلا الله» هذه كلمة الإخلاص كلمة التوحيد ؛ «لا إله إلا الله» ولا توحيد إلا بها ، بل التوحيد هو لا إله إلا الله ، وهي تقوم على ركنين عظيمين وأصلين متينين : النفي والإثبات ؛ أولها نفي وآخرها إثبات ، «لا إله» نفي ، «إلا الله» إثبات وهذا هو التوحيد ، التوحيد نفي وإثبات ، لا يكون التوحيد إلا بالنفي والإثبات هذا هو التوحيد ، نفي ماذا وإثبات ماذا ؟ «لا إله إلا الله» نفيٌ للعبودية عن كل ما سوى الله ، هذا نفي عام «لا إله» هذا نفي للعبودية عن كل ما سوى الله سبحانه وتعالى ، «إلا الله» هذا إثبات خاص للعبودية بكل معانيها لله وحده ، فـ«لا إله إلا الله» تعني أن لا نعبد إلا الله ، لا ندعو إلا الله ، لا نستغيث إلا بالله ، لا نصرف شيئا من العبادة إلا له {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام:162-163] .
ودبر كل صلاة نهلل مؤكدين في تهليلنا معنى هذه الكلمة محققين ما دلت عليه ، ولهذا فإن التهليلات التي هي دبر كل صلاة تؤثر عن النبي عليه الصلاة والسلام كلها تنصب في هذا المعنى في هذا المضمون؛ تحقيق المعنى الذي دلت عليه «لا إله إلا الله» والتأكيد عليه ، وهي ثلاث تهليلات؛ الأولى: تقول عقبها «وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» ، والثانية: تقول عقبها «ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن» ، والثالثة: تقول عقبها «مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» . فلاحظ أن هذه التهليلات التي تكررها دبر كل صلاة تعينك على تحقيق وتأكيد التوحيد الذي دلت عليه «لا إله إلا الله» . قلنا «لا إله إلا الله» نفي وإثبات ، فأكدت الأثبات بقولك «وحده» ، وأكدت النفي بقولك «لا شريك له»، تأكيدٌ للتوحيد واهتمام بمقامه العظيم . في المرة الثانية تقول «لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه» وهذا هو الإخلاص الذي تدل عليه الكلمة أن لا نعبد إلا الله وأن لا نصرف شيئا من العبادة إلا له سبحانه وتعالى ، وفي الثالثة تقول «مخلصين له الدين» لأن هذه الكلمة كلمة الإخلاص ؛ أن تخلص دينك لله سبحانه وتعالى . «له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» في الأولى ، وفي الثانية «له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن» هذه براهين التوحيد ودلائل وجوب الإخلاص لله سبحانه وتعالى أن الفضل بيد الله والملك ملك الله والنعمة نعمته سبحانه وتعالى ، فلا معبود بحق سواه ، كما أنه تفرد بالملك والخلق والرزق والإنعام لا شريك له فيجب أن يُفرد بالعبادة لا ند له {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:21-22] أي أنه لا خالق لكم ولا رازق إلا الله سبحانه وتعالى . هذا الذي هو أعلى الإيمان يجب على العبد أن تعظم عنايته به تقويةً وتجديدًا وتمكينا له في القلب وتوسيعًا لمساحته في قلب العبد ؛ لأنه هو الأساس الذي يقوم عليه دين الله جل وعلا .
قال: ((وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) وهذا فيه أن لا يستهين المؤمن بخصال الإيمان وشعبه ، فإن الأعمال التي هي أعمال الإحسان والبر ونفع المسلمين ودفع الأذى عنهم هذه من أعمال الإيمان الداخلة في مسماه ؛ إماطة الأذى عن الطريق نصحًا للعباد ودفعًا للأذى عنهم هذا من الخصال العظيمة الجليلة التي يترتب عليها الثواب العظيم عند الله سبحانه وتعالى ، جاء في صحيحي البخاري ومسلم ((أن رجلا مر بغصن شجرة ذي شوك في طريق المسلمين فقال والله لا أدع هذا في طريق المسلمين فيؤذيهم ، فنحاه عن الطريق فشكر الله عمله فأدخله الجنة)) ، إماطة الأذى عن الطريق هذا من خصال الإيمان ، من الأعمال الداخلة في الإيمان .
وعندما نقرأ في هذا الحديث «أعلاها» ، «وأدناها» وكثرة هذه الشعب «بضع وسبعون» ندرك من ذلك أن أهل الإيمان ليسو في الإيمان على درجة واحدة ، لأن هذه خصال الإيمان كما نقرأها في هذا الحديث ،هذه خصال الإيمان وهل أهل الإيمان في التطبيق لهذه الخصال على درجة واحدة؟! الشخص الواحد هو في نفسه -دعك من الآخرين- هل هو في تطبيقه للإيمان في أيامه على درجة واحدة؟ أليس يجد من نفسه تفاوتًا في إيمانه بين وقت ووقت بحسب المؤثرات ؛ إن جالس الصالحين وحضر حلق العلم ومجالس الذكر وقرأ القرآن واشتغل بالنافع رأى إيمانه قد ازداد ، وإذا انشغل بمجالس اللهو والغفلة يجد أن إيمانه نقص وضعُف ، ولهذا باتفاق أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف وأن أهله ليسو فيه على درجة واحدة ، بل شأنهم كما قال الله في سورة فاطر {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}[فاطر:32] ، فهم ليسو فيه على درجة واحدة وتفاوتهم في الإيمان عائد إلى تفاوتهم في حظهم من خصال الإيمان ، لأن إيمان العبد يزيد بحسب حظه من خصال الإيمان وشعبه ، فكلما ازداد من هذه الخصال ازداد من هذه الشعب زاد إيمانه وقوي ، وإذا ضعف حظه وقل نصيبه منها ضعف إيمانه {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[التوبة:124] ، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال:2-4] ، فالناس أو أهل الإيمان متفاوتون في الإيمان تفاوتًا عظيما ، وهذا أيضا يفيد المؤمن أهمية العناية بمعرفة أسباب زيادة الإيمان ليزداد إيمانا ، وأهمية المعرفة أيضا بأسباب نقص الإيمان وضعفه ليبتعد عنها ليسلم منها حفاظا على إيمانه وإبقاءً على قوته وزيادته .
((أدناها إماطة الأذى عن الطريق)) هذه الخصلة من خصال الإيمان كيف حال الناس أو أهل الإيمان معها؟ هل كلهم يميط الأذى عن الطريق؟ منهم من يميط الأذى ، ومنهم من يدع الذي يراه ولا يميطه ، ومنهم من يضع الأذى في الطريق ؛ وهذا أيضا من الدلائل على أن أهل الإيمان متفاوتون في خصال الإيمان .
ويستفاد من قوله ((إماطة الأذى عن الطريق)) أن المسلم مطلوبٌ منه أن يبتعد عن كل ما يؤذي المسلمين من الأذى القولي أو الفعلي ، لا يؤذي أحدا ، لا يفعل شيئا يترتب عليه أذى للمسلمين ، والمسلم يحب لأخيه ما يحب لنفسه ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)) أي من الخير ، وفي الحديث الآخر قال: ((وَتَأْتِي إِلَى النَّاسِ مَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ)) فهو يعاملهم بما يحب أن يعامَل به ، وهو لا يحب أن يؤذى فإذًا هو لا يؤذي، ولهذا شُرع للمسلم إذا خرج من بيته أن يقول: « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَىَّ » .
وقوله في هذا الحديث ((والحياء شعبة من شعب الإيمان)) الحياء خصلة عظيمة جدا وخلة مباركة من خلال الإيمان ، ومحل الحياء القلب ، والعباد متفاوتون في الحياء ليسو في الحياء على درجة واحدة ، قد قال عليه الصلاة والسلام : ((عُثْمَانُ أَحْيَا أُمَّتِي)) ؛ هذا يفيد أن الناس في الحياء متفاوتون ، والحياء كما قال عليه الصلاة والسلام ((الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ)) و ((لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ)) ، مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يعظ أخاه في الحياء قال له : (( دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ)) وفي الحديث الآخر ((الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ))؛ دعه لا تعظه في الحياء فإن الحياء لا يأتي إلا بخير ، وكثيرًا ما نعظ نحن في الحياء نقول: "لماذا تستحي" ، "لا تستحي" ، "ليش الحياء" ، قال ((دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير)) ، نتائج الحياء دائما مباركة ، لكن قلة الحياء -والعياذ بالله- وانتزاع الحياء من القلب هذا شر عظيم جدا ، في الحديث ((إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)) ؛ إذا نُزع الحياء وذهب الحياء فكل أعمال المرء تشين وتسوء والعياذ بالله ، وإذا وُجد الحياء وُجد الخير ، الحياء خصلة في القلب تدعو صاحبها إلى فعل الجميل والبُعد عن القبيح .
هذا الحديث العظيم يعرف عند أهل العلم بـ«حديث الشعب» ؛ ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) ، بعض أهل العلم استغرق في الكتابة عن هذا الحديث وجمْع فوائده وخصاله استغرق سنوات وهو مع هذا الحديث ، ومن أهل العلم من أفرده بمصنفات موسعة جدًا ؛ مثل البيهقي في كتابه الواسع الكبير «شعب الإيمان» ، ومن قبله ابن حبان وإن كان كتابه مفقود لكن حسب ما ذُكر بذل جهدًا طويلا واسعا في جمع شعب الإيمان وخصاله العظيمة .
فالحاصل أن هذا الحديث حديث عظيم جدا في بيان شعب الإيمان وخصاله، فنسال الله الكريم رب العرش العظيم أن يزيدنا أجمعين إيمانًا وهدى ، وأن يزيِّننا بزينة الإيمان ، وأن يجعلنا هداة مهتدين ، وأن يصلح لنا شأننا كله ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ؛ إنه سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك .
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى