كمال النفس ، ومكارم الأخلاق
الجمعة يناير 23, 2009 6:25 pm
كمال النفس ، ومكارم الأخلاق
بعث الله ـ تعالى ـ نبيه ـ صلى الله عليه وسلم إلى عموم الثقلين ، وأيده الله بما أيده به من معجزات إلهية ، ودلائل نبوية ، كانت وما زالت حديثاً يتناقله الناس ، ويتفاخر به المسلمون ،ولذلك ظهرت له العديد من هذه الصفات ، وتناقلت بعد وفاته ، صفحات جعلت منه حديثاً للقلوب تأنس بالحديث عنه ، وتلذ عند الوقوف عندها .
ولقد عرفت لنا مواقفه مع أهل بيته وأصحابه وخدمة وماليه الكثير من هذه الصفات التي ساندته في نشر دعوته ، وإبلاغها للناس ، ولعل في ذكرها توطيداً للحديث عن أثها في الناس الذي كان له الغلبة ، فما لبث الناس أن يدخلوا في دين الله أفواجاً .
ومن هذه الصفات الكثيرة التي لا يمكن حصرها ، ما كان عليه من الحلم والاحتمال ، والعفو عند المقدرة ، والصبر على المكاره ، ( صفات أ دبه الله بها ، وكل حليم قد عفرت منه زلة ، وحفظت عنه هفوة ، ولكنه ـ صلى الله عليه وسلم لم يزد مع كثير الأذى إلا صبراً وعلى إسراف الجاهل إلا حلماً ، قالت عائشة رضي الله عنها : " ما خير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه ، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها ، وكان أبعد الناس غضباً ، وأسرعهم رضاً ) .
ولعله من المناسب الاستشهاد على هذا الصفات العظيمة ،والاخلاق الرفيعة بموقفه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع الأعرابي الذي سأله ، فعن أنس ابن مالك ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه قال : كنت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليه برد غليظ الحاشية ، فجذبه أعرابي بردائه جذبه شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه ، ثم قال : يا محمد أحمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك ، فنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك ، فسكت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال : المال مال الله ، وأنا عبده ، ثم قال : ويقاد منك يا أعربي ما فعلت بي ، قال : لا ، قال : لم ؟ قال : لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة ن فضحك عليه الصلاة والسلام ، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير ، وعلى الآخر تمر وكان من جميل خصاله الحياء وغض البصر ، كيف لا ؟ وهو الذي بعث للتشريع ، والذي حماه الله من كل باطل في الجاهلين ! فكيف به وقد أصبح رسول الإسلام ؟ وقد أخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند ذلك عن نفسه فقال : ( لما نشأت بغضت إلى الأوثان ، وبغض إلى الشعر ، ولم أهم بشيء مما كانت عليه الجاهلية تفعل إلا مرتين ، كل ذلك يحول الله برسالته ، قلت ليلة لغلام كان يرعى معي : لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر كما يسمر الشباب ، فخرجت حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفاً بالدفوف والمزامير لغرس كان لبعضهم فجلست لذلك ، فضرب اله على أني ، فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس ، ولم أقض شيئاً ، ثم عراني ذلك مرة أخرى ) .
وفي حيائه قال أبو سعيد الخدري : ( كان أشد حياة من العذراء في خدرها ، وإذ كره شيئاً عرف في وجهه ، وكان لا يثبت نظره في وجه أحد ، خافض الطرف كان نظرة إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، لا يشافه أحداً بما يكره حياء ، وكرم نفس ، وكان لا يسمي رجلاً بلغ عنه شيء بكرهه ، بل يقول : ما بال أ قوام يصنعون كذا ) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً في الأسواق ، ولا يجزي بالنسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح )
وأما حسن عشرته وأدبه ، وبسط خلقه مع أصناف الخلق ، فما أجمل ما قال عنه الخضري في ذلك ن ولذلك أورده هنا حيث قال : " فمما انتشرت به الاخبار الصحيحة ، قال علي ، صلى الله عليه وسلم ـ كان عليه الصلاة والسلام أوسع الناس صدراً ، وأدق الناس لهجة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشرة ، وكان عليه الصلاة والسلام يؤلفهم ، ولا ينفرهم ، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ، ويحترس منهم ، من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ، ولا خلقه ، ويتفقد أصحابه ، ويعطي كل جلسائه نصيبه ، ولا يحسن جليسه أن أحداً أكرم عليه منه .. قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أباً ، وصاروا عنده في الحق سواء .. وكان دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ،ولا صخاب ن ولا فحاش ، ولا عياب ، ولا مدا خ ، يتغافل عما يشتهي ، قال تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) [ آل عمران : 159] وكان عليه الصلاة والسلام يجيب من دعاه ، ويقبل الهدية ، ولو كانت كراعاً ، ويكفي عليها ، وكان يمازح أصحابه ، ويخالطهم ، ويحادثهم ، ويعود المرضى في أقصى المدينة ...
وقال أنس : ما التقم أحد أذن النبي يحادثه فنحى رأسه ، حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه ، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر ، وكان يبدأ من لقيه بالسلام ، ويبدأ أصحابه بالمصافحة ، لم ير قط ماداً رجليه بين أصحابه حتى يضيق بهما على أحد ، يكرم من يدخل أصحابه ، ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمه لهم ، ولا يقطع على أحد حديثه ... وكان أكثر الناس تبسماً وأطيبهم نفساً .
وعندما تستعرض شمائله وصفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ تبرز صفة الرحمة التي وهبها الله له ، تلك الرحمة التي شملت كل من سمع به ، فقد أرسله الله تعالى رحمه للعالمين ، وقد انقسمت رحمته إلى قسمين : قسم عامل شامل يظهر في موقفه مع جبريل ـ عليه السلام ـ يوم أن كذب به قومه ، فقال له جبريل : " إن الله ـ تعالى قد سمع قول قومك إليك ، وما رجوك عليه ، وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداه ملك الجبال وسلم عليه ، وقال : " مرني بما شئت أن أطبق عليهم الأخشبين " فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( لا بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً ) ، وكان هذا مظهر من مظاهر الرحمة المحمدية العامة .
وأما القسم الثاني : فهو الحرمة الخاصة ، التي كانت دلائلها واضحة في موقفه مع الأعرابي الذي جاء يطلبه فأعطاه ، ثم قال له : " هل أحسنت إليك ؟ قال الإعرابي : لا ، ولا أجملت فغضب المسلمون لمقالته ، وقاموا إليه ليضربوه على سوء أدبه مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأشر إليهم أن كفوا ، ثم قام فدخل منزله ، وأرسل إلى الإعرابي وزاده شيئاً ، ثم قال له " أحسنت إليك ؟" قال : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ، فقال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم " إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك شيء ، فإن أحببت فقل بين أيدهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك " ، قال : نعم فلما كان الغد أو العشي جاء فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم : ( إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدنا فزعم أنه رضي أكذلك ؟ " قال : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ، فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ " مثلي هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه فأتبعها النسا فلم يزدها إلا نفوراً فناداهم صاحبه ، خلوا بيني وبين ناقتي ، فإني أرفق بها منكم وأعلم ، فتوجه لها بين يديها فأخذ لها من قام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت ، وشد عيها رحله واستوى عليه ، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال ، فقتلتموه دخل النار .
ولقد عظمت هذه الرحمة في قلبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كيف لا ؟ وما كان الذي أرسله ربه رحمة للعالمين إلا أن يرحم ، ولكن كان لها في قلوب الناس من أثر ، ولكم وجد أولئك من تلك الرحمة من خير وسعة .
ولم تكن رحمة ـ عليه الصلاة والسلام ـ خاصة بالناس ، بل تعدي ذلك إلى ما كان حوله من حيوان وجماد ، ومنها مواقفه مع الجذع الذي حن لفرقه بعد أن كان يخطب عليه ، فلما استبدلوه بمنبر حن الجذع كما جاء ، فقد قال جابر ابن عبد الله : كان المسجد مسقوفاً على جذوع نخل ، فكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا خطب يقوم إلى جذع منها ، فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار ، عند أنس : حتى ارتجع المسجد لخواره ، فجاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوضع يده عليه فكست ، وقد زاد غيرة فقال ـ صلى الله عليه وسلم إن هذا بكى لما فقد من الذكر ، والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة تحزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومما اتصف به ـ صلى الله عليه وسلم ـ من صفات الخير الوفاء ، وحسن العهد ، وصلة الرحمن ، والشواهد على هذه الصفات كثيرة يمكن أن نستعرض منها ما يلي : ـ
1- من دلائل وفائه ما كان له مع عبدالله بن الحماء قال ك بايعت النبي ، صلى الله عليه وسلم ـ بيع ، قبل أن يبعث ، فإذا هو في مكة ، فقال : ( يا فتى لقد شققت علي ، أنا هنا منذ ثلاثة أنتظرك ) .
2- حدثت عائشة ـ رصي الله عنه ـ قالت : " ما غرت من أمرأة ما غرت من خديجة ، لما كنت أسمعه يكذهرا ، وإن كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها ، وأستأذنت عليه اختها فارتاح إليه ودخلت امرأة فهش لها ، وأحسن السؤال عنها فلما خرجت ، قال " إنها كانت تأتينا أيام خديجة ن وإن حسن المعهد من الإيمان "
3- حافظ الحبيب المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ على صلة الأرحام ، وقد نال رحمه بكثير من الوصال والعطاء ، ومن ذلك أنه كان يبسط رداءه لامرأة تزوره ، فسئل عن هذه المرأة ، فقيل : أمه من الرضاعة ، ومن ذلك صلته بنته أمامة بنت زينت ـ رضي الله عنها ـ ، فكانت يحملها على عاتقه وهو يصلي ، فإذا سجد وضعها وإذ قام حملها فى عاتقه ، وكان يبعث إلى ثويبة مولاه أب يلهب مرضعته بصلة وكسوة .
ولقد اجتمعت جملة هذه الصفات ، واتضحت في مشهد خديجة له يوم أن عاد إليها يرجف مما شاهد وسمع في غار حراء ، حين قلت : ( كلا ، والله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ) .
وبعد هذا ، فلقد كان لجملة هذه الصفات أثرها البالغ في حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحبه ، الذين وجدوا فيها ما وجدوه من حسن صحبه ، وكرامة ف ضل ، في زمن الغربة والألم والضيم ، ومن التشرد والخوف والوجل ، بل كان لهذه الصفات أثرها فيمن سمع به ، وشاهده ، وجلس إليه ، وآمن هادياً ويشيراً .
بعث الله ـ تعالى ـ نبيه ـ صلى الله عليه وسلم إلى عموم الثقلين ، وأيده الله بما أيده به من معجزات إلهية ، ودلائل نبوية ، كانت وما زالت حديثاً يتناقله الناس ، ويتفاخر به المسلمون ،ولذلك ظهرت له العديد من هذه الصفات ، وتناقلت بعد وفاته ، صفحات جعلت منه حديثاً للقلوب تأنس بالحديث عنه ، وتلذ عند الوقوف عندها .
ولقد عرفت لنا مواقفه مع أهل بيته وأصحابه وخدمة وماليه الكثير من هذه الصفات التي ساندته في نشر دعوته ، وإبلاغها للناس ، ولعل في ذكرها توطيداً للحديث عن أثها في الناس الذي كان له الغلبة ، فما لبث الناس أن يدخلوا في دين الله أفواجاً .
ومن هذه الصفات الكثيرة التي لا يمكن حصرها ، ما كان عليه من الحلم والاحتمال ، والعفو عند المقدرة ، والصبر على المكاره ، ( صفات أ دبه الله بها ، وكل حليم قد عفرت منه زلة ، وحفظت عنه هفوة ، ولكنه ـ صلى الله عليه وسلم لم يزد مع كثير الأذى إلا صبراً وعلى إسراف الجاهل إلا حلماً ، قالت عائشة رضي الله عنها : " ما خير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه ، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها ، وكان أبعد الناس غضباً ، وأسرعهم رضاً ) .
ولعله من المناسب الاستشهاد على هذا الصفات العظيمة ،والاخلاق الرفيعة بموقفه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع الأعرابي الذي سأله ، فعن أنس ابن مالك ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه قال : كنت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليه برد غليظ الحاشية ، فجذبه أعرابي بردائه جذبه شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه ، ثم قال : يا محمد أحمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك ، فنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك ، فسكت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال : المال مال الله ، وأنا عبده ، ثم قال : ويقاد منك يا أعربي ما فعلت بي ، قال : لا ، قال : لم ؟ قال : لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة ن فضحك عليه الصلاة والسلام ، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير ، وعلى الآخر تمر وكان من جميل خصاله الحياء وغض البصر ، كيف لا ؟ وهو الذي بعث للتشريع ، والذي حماه الله من كل باطل في الجاهلين ! فكيف به وقد أصبح رسول الإسلام ؟ وقد أخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند ذلك عن نفسه فقال : ( لما نشأت بغضت إلى الأوثان ، وبغض إلى الشعر ، ولم أهم بشيء مما كانت عليه الجاهلية تفعل إلا مرتين ، كل ذلك يحول الله برسالته ، قلت ليلة لغلام كان يرعى معي : لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر كما يسمر الشباب ، فخرجت حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفاً بالدفوف والمزامير لغرس كان لبعضهم فجلست لذلك ، فضرب اله على أني ، فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس ، ولم أقض شيئاً ، ثم عراني ذلك مرة أخرى ) .
وفي حيائه قال أبو سعيد الخدري : ( كان أشد حياة من العذراء في خدرها ، وإذ كره شيئاً عرف في وجهه ، وكان لا يثبت نظره في وجه أحد ، خافض الطرف كان نظرة إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، لا يشافه أحداً بما يكره حياء ، وكرم نفس ، وكان لا يسمي رجلاً بلغ عنه شيء بكرهه ، بل يقول : ما بال أ قوام يصنعون كذا ) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً في الأسواق ، ولا يجزي بالنسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح )
وأما حسن عشرته وأدبه ، وبسط خلقه مع أصناف الخلق ، فما أجمل ما قال عنه الخضري في ذلك ن ولذلك أورده هنا حيث قال : " فمما انتشرت به الاخبار الصحيحة ، قال علي ، صلى الله عليه وسلم ـ كان عليه الصلاة والسلام أوسع الناس صدراً ، وأدق الناس لهجة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشرة ، وكان عليه الصلاة والسلام يؤلفهم ، ولا ينفرهم ، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ، ويحترس منهم ، من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ، ولا خلقه ، ويتفقد أصحابه ، ويعطي كل جلسائه نصيبه ، ولا يحسن جليسه أن أحداً أكرم عليه منه .. قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أباً ، وصاروا عنده في الحق سواء .. وكان دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ،ولا صخاب ن ولا فحاش ، ولا عياب ، ولا مدا خ ، يتغافل عما يشتهي ، قال تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) [ آل عمران : 159] وكان عليه الصلاة والسلام يجيب من دعاه ، ويقبل الهدية ، ولو كانت كراعاً ، ويكفي عليها ، وكان يمازح أصحابه ، ويخالطهم ، ويحادثهم ، ويعود المرضى في أقصى المدينة ...
وقال أنس : ما التقم أحد أذن النبي يحادثه فنحى رأسه ، حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه ، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر ، وكان يبدأ من لقيه بالسلام ، ويبدأ أصحابه بالمصافحة ، لم ير قط ماداً رجليه بين أصحابه حتى يضيق بهما على أحد ، يكرم من يدخل أصحابه ، ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمه لهم ، ولا يقطع على أحد حديثه ... وكان أكثر الناس تبسماً وأطيبهم نفساً .
وعندما تستعرض شمائله وصفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ تبرز صفة الرحمة التي وهبها الله له ، تلك الرحمة التي شملت كل من سمع به ، فقد أرسله الله تعالى رحمه للعالمين ، وقد انقسمت رحمته إلى قسمين : قسم عامل شامل يظهر في موقفه مع جبريل ـ عليه السلام ـ يوم أن كذب به قومه ، فقال له جبريل : " إن الله ـ تعالى قد سمع قول قومك إليك ، وما رجوك عليه ، وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداه ملك الجبال وسلم عليه ، وقال : " مرني بما شئت أن أطبق عليهم الأخشبين " فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( لا بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً ) ، وكان هذا مظهر من مظاهر الرحمة المحمدية العامة .
وأما القسم الثاني : فهو الحرمة الخاصة ، التي كانت دلائلها واضحة في موقفه مع الأعرابي الذي جاء يطلبه فأعطاه ، ثم قال له : " هل أحسنت إليك ؟ قال الإعرابي : لا ، ولا أجملت فغضب المسلمون لمقالته ، وقاموا إليه ليضربوه على سوء أدبه مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأشر إليهم أن كفوا ، ثم قام فدخل منزله ، وأرسل إلى الإعرابي وزاده شيئاً ، ثم قال له " أحسنت إليك ؟" قال : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ، فقال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم " إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك شيء ، فإن أحببت فقل بين أيدهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك " ، قال : نعم فلما كان الغد أو العشي جاء فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم : ( إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدنا فزعم أنه رضي أكذلك ؟ " قال : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ، فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ " مثلي هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه فأتبعها النسا فلم يزدها إلا نفوراً فناداهم صاحبه ، خلوا بيني وبين ناقتي ، فإني أرفق بها منكم وأعلم ، فتوجه لها بين يديها فأخذ لها من قام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت ، وشد عيها رحله واستوى عليه ، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال ، فقتلتموه دخل النار .
ولقد عظمت هذه الرحمة في قلبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كيف لا ؟ وما كان الذي أرسله ربه رحمة للعالمين إلا أن يرحم ، ولكن كان لها في قلوب الناس من أثر ، ولكم وجد أولئك من تلك الرحمة من خير وسعة .
ولم تكن رحمة ـ عليه الصلاة والسلام ـ خاصة بالناس ، بل تعدي ذلك إلى ما كان حوله من حيوان وجماد ، ومنها مواقفه مع الجذع الذي حن لفرقه بعد أن كان يخطب عليه ، فلما استبدلوه بمنبر حن الجذع كما جاء ، فقد قال جابر ابن عبد الله : كان المسجد مسقوفاً على جذوع نخل ، فكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا خطب يقوم إلى جذع منها ، فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار ، عند أنس : حتى ارتجع المسجد لخواره ، فجاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوضع يده عليه فكست ، وقد زاد غيرة فقال ـ صلى الله عليه وسلم إن هذا بكى لما فقد من الذكر ، والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة تحزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومما اتصف به ـ صلى الله عليه وسلم ـ من صفات الخير الوفاء ، وحسن العهد ، وصلة الرحمن ، والشواهد على هذه الصفات كثيرة يمكن أن نستعرض منها ما يلي : ـ
1- من دلائل وفائه ما كان له مع عبدالله بن الحماء قال ك بايعت النبي ، صلى الله عليه وسلم ـ بيع ، قبل أن يبعث ، فإذا هو في مكة ، فقال : ( يا فتى لقد شققت علي ، أنا هنا منذ ثلاثة أنتظرك ) .
2- حدثت عائشة ـ رصي الله عنه ـ قالت : " ما غرت من أمرأة ما غرت من خديجة ، لما كنت أسمعه يكذهرا ، وإن كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها ، وأستأذنت عليه اختها فارتاح إليه ودخلت امرأة فهش لها ، وأحسن السؤال عنها فلما خرجت ، قال " إنها كانت تأتينا أيام خديجة ن وإن حسن المعهد من الإيمان "
3- حافظ الحبيب المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ على صلة الأرحام ، وقد نال رحمه بكثير من الوصال والعطاء ، ومن ذلك أنه كان يبسط رداءه لامرأة تزوره ، فسئل عن هذه المرأة ، فقيل : أمه من الرضاعة ، ومن ذلك صلته بنته أمامة بنت زينت ـ رضي الله عنها ـ ، فكانت يحملها على عاتقه وهو يصلي ، فإذا سجد وضعها وإذ قام حملها فى عاتقه ، وكان يبعث إلى ثويبة مولاه أب يلهب مرضعته بصلة وكسوة .
ولقد اجتمعت جملة هذه الصفات ، واتضحت في مشهد خديجة له يوم أن عاد إليها يرجف مما شاهد وسمع في غار حراء ، حين قلت : ( كلا ، والله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ) .
وبعد هذا ، فلقد كان لجملة هذه الصفات أثرها البالغ في حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحبه ، الذين وجدوا فيها ما وجدوه من حسن صحبه ، وكرامة ف ضل ، في زمن الغربة والألم والضيم ، ومن التشرد والخوف والوجل ، بل كان لهذه الصفات أثرها فيمن سمع به ، وشاهده ، وجلس إليه ، وآمن هادياً ويشيراً .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى