وشر البلية ما يضحك
السبت يناير 23, 2010 11:44 pm
من عادة القرويين القاطنين بنواحي مدينة مراكش الحمراء فيما مضى من
الأعوام السالفة التنقل إلى المدينة على متن حافلات مهترئة ومتهالكة ليس
لها من الحافلة إلا الإسم، وذلك كل يوم جمعة قصد زيارة الأقارب والأحباب
والتجول والتفسح بالنسبة للبعض وارتياد القاعات السينمائية بالنسبة للبعض
الآخر، تلك القاعات الباكية اليوم على أطلالها ، التي كانت لها الهمة
والشأن عندما لم تكن هنالك لا صحون مقعرة ولا دي في دي ولا هم يحزنون،
حينذاك كانت صالات السينما تمتلأ عن آخرها، بحيث أن الإزدحام والتدافع على
اقتناء تذاكر الدخول كان على أشده لدرجة أن المرء إن لم تكن له قوة
جسمانية جيدة وبنية صلبة فلا محالة أنه سوف ينهار وترفسه الأرجل كورق
الكرتون، وحكى لي أحد معارفي حكاية غاية في الطرافة جعلتني أضحك حتى
انكفيت واكتفيت، عن قروي مُقيم قرب دارهم الطينية بالدوار بمنطقة مسفيوة
البعيدة عن مدينة مراكش ب 25 كيلومتر، عندما حل في أحد أيام الجمعة
بمراكش، وتوجه مباشرة إلى سينما مبروكة الواقعة وسط المدينة قصد الاستمتاع
بأحد أفلام الويسترن الذي سمع ملخصا عنه من أحد أصحابه بحماس قائلا: مسدس
البطل الهمام أسرع من ظله ولا يُصيبه عطل أو خواء وحصانه الراكد في
الوديان وعلى الهضاب والجبال لا تعتريه علة ولا يلم به عياء، فأثار ذلك
فضول القروي وجاء مهرولا لا يلوي على شيء سوى التلهف لرؤية الفيلم.
حضر
صاحبنا مرتديا جلبابا تقليديا كما كانت عادة القرويين حينذاك، على عكس ما
نراه اليوم حيث أضحى أكثرهم يولون اهتماما لمظهرهم وملبسهم وأناقتهم أكثر
من أهل الحضر، اقتنى تذكرة الدخول من السوق السوداء الذي يُسمى 'مارشي
نوار' بزيادة دريهمات على الثمن الحقيقي للتذكرة، ثم ذهب واشترى بعض
المأكولات والمكسرات ووضعها في قب جلبابه(1)،
وما إن فتحت القاعة أبوابها حتى تدفقت عليها أمواج من البشر كالطوفان
لدرجة أن الطريق المؤدية إلى ساحة جامع الفنا أضحت مقطوعة في وجه المرور،
ولم تعد ترى صاحبنا إلا كغريق يستنجد للنجاة بجلده وسط بحر متلاطم الأمواج
تتقاذفه يمنة ويسرة وصعودا وهبوطا، يداه مشلولتان مكبلتان، تارة يشعر
بأرجله تلامس الأرض و أخرى يحس كانه محمول على بساط الريح، ولم يصل عند
الكمسري أو محصل التذاكر إلا بعد جهد جهيد وعرق أكيد حتى رأى النجوم في
واضحة الظهر الأحمر، وكملت الباهية عندما انتبه لِــقُــب جلبابه واستيقن
أنه حُــزَّ من دبر وراح بكل ما فيه وتبخر، دخل صاحبنا للقاعة متحسرا
نادما لما حصل لجلبابه، وتابع الفيلم ورأى كيف كان البطل يتصرف مع الأشرار
بذكاءه ودهائه وشدته، أما هو فقد شعر بغباءه وغفلته وقلة حيلته لما قام
الأدهياء بِفِصَالَةِ قَشَّابَة على مقاسه دون علمه واستشارته بقي لا بسا
إياها أينما حل وارتحل في ذهابه وإيابه وحضوره وغيابه.
أما الواقعة الثانية فهي حديثة العهد وتعود إلى زمن قريب قبل حلول عيد الأضحى الماضي، حيث استعد محمد
قبل العيد كمن ينطبق عليه المثل المغربي "حزموني ورزموني وما تعولوا علي"،
فحمل في جيبه 140 دولارا ثم قصد سوق بيع المواشي، دخل إلى السوق قائلا
باسم الله كباقي الناس وبدأ في المساومة مع السماسرة والمضاربين والشناقة
والكسابة وآخرين لا يعلمهم إلا الراسخون في القوالب، ودار بكل أرجاء السوق
حتى أتلف القبلة ولم يعد يدري ما يدور حوله من فوضى ورفس بالأرجل وتدافع
وجلبة، أخيرا سقط نظره على خروف قد يملأ عيون زوجته، فارتخت أعصابه وتنفس
الصعداء، استفسر عن الثمن، فقال له البائع 120 دولارا، أدخل محمد يده في
جيب سرواله لإخراج المبلغ، فلم يجد غير الشيح والريح وثقب يضحك تارة وأخرى
ينوح، لقد سرقوا المسكين وبقي واقفا مكانه كالصنم، اصفر وجهه وأصابه
ارتباك شديد، كيف حدث له ذلك وهو المعروف بدهاءه الكبير وحيلته التي لا
تقهر إنها لمهزلة... إنها لشماتة، ولكن فوق كل ذي حيلة محتالين أشد، وفوق
كل ذي دهاء أدهياء، انفجر كل من كان بجواره بالضحك وقاموا بمواساته على
مصابه، وعاد المسكين إلى داره لا كبش ولاقرون وإنما بجيب مثقوب وقلب متحسر
معطوب.
ولما انتهى من سرد حكايته علي التفتت إليه وقلت: إنني أعرفك جيدا... أنت
ابن مدينة مراكش ومعروف عنك أنك ذكي وداهية، كيف فعلوها بك كالمغفل؟..
تبسم ابتسامة المهزوم وقال لي: والله ما شعرت بأي شيء وكأن يدا سحرية خفية
تلقفت المبلغ وراحت من حيث لا أدري، عند ذلك تذكرت قصيدة للمرحوم الحسين
السلاوي يقول في مطلعها: "احض راسك ليفوزوا بك القومان يا فلان"، والتي
حور كلماتها بطريقة ساخرة المرحوم عمر الميخي صاحب الحلقة المشهورة بساحة
جامع الفنا كالتالي: " احض راسك ليفوزوا بك سالغان فالظلام"، وكان يقصد
بسالغال المجندين السنغاليين السود في الجيش الفرنسي، الذين كانت تسخرهم
فرنسا تحت ظلمة الليل في الأزقة والدروب للقيام بالأعمال القذرة و التربص
وإطلاق النار على المقاومين المغاربة للإستعمار الفرنسي، لتصفيتهم خصوصا
أثناء أوقات حظر التجول التي كانت تبتدأ مع حلول الساعة السادسة مساء.
- ريتشةصقر ذهبي
- عدد المشاركات : 1025
العمر : 34
أوسمة التميز :
تاريخ التسجيل : 16/04/2009
رسالتي : لو بحثت عن صديق فلم تجده ، فتأكد انك تبحث عنه لتأخذ منه شيئاً
ولو بحثت لتعطيه شيئاً لوجدته
رد: وشر البلية ما يضحك
الأحد يناير 24, 2010 11:15 pm
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى